السيد الرئيس،
أتقدّم لكُم بأحرّ التهاني بمناسبة توليكم رئاسة أعمال هذه الدورة، وأقدر جهود معالي شابا كوروشي أثناء ترأسه أعمال الدورة السابقة.
وأود أن أعرب مجدداً عن خالص تعازينا ومواساتنا لحكومتي وشعبي المملكة المغربية ودولة ليبيا في ضحايا الكوارث التي المت بالبلدين مؤخراً.
السيد الرئيس،
لقد اختارت دولة الإمارات أن يكون هذا العام عام الاستدامة، تحت شعار “اليوم للغد”، إدراكاً منا بمسؤولياتنا تجاه أجيال الحاضر والمستقبل، والتي تستحق العيش في بيئات آمنة، ومزدهرة، وتكريماً منا للأجيال السابقة، التي لم تألُ جهداً للنهوض بالأمم وتنميتها، وحرصاً منا على صون كوكب الأرض بما يحتويه من موارد وحضارات عريقة.
إن دولة الإمارات تُؤمِن بأهمية هذا النَّهْج في خَضِم المعارك الوجودية التي يخوضُها العالم اليوم، سواءً من حيث مُجابَهَة النزاعات المسلحة التي بلغت ذَرَوتهَا منذ الحرب العالمية الثانية، أو من حيث مواجهَة التغير المناخي بكوارِثِه المُتوالية، أو من حيث دفاعِنا الثابت عن قيمنا الإنسانية المشتركة في ظل اكتساح العالم موجات عاتِيَة من التطرف والعنصرية وخطاب الكراهية.
إن معالجة هذه التحديات أصبح ممكناً في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقت مضى مع وصولنا إلى أعلى درجات التطور، فنحن نمتلِك التكنولوجيا المتقدمة لإيجاد حلولٍ مُبتكرة للتحديات المُعقَدَة، ولدينا مؤسسات إقليمية ودولية قادرة على تنسيق العمل الجماعي، وتتوفر لدينا الأطُر القانونية اللازمة لتنظيم العلاقات بين الدول.
أما ما نحتاجُه، فهو التحَلّي بإرادة سياسية جادة وعازمة على معالجة التحديات الوجودية واستشراف المستقبل، بعيداً عن الخلافات والانقسامات العَبَثيّة، التي باتت المُعرقِل الرئيسي للعمل المشترك.
وهذا ما لمَسَته دولة الإمارات بشكلٍ كبير خلال عضويتها في مجلس الأمن منذ العام الماضي، فكثيراً ما أعاقت الخلافات الجيوسياسية هذه الهيئة من التوصل إلى التوافق المنشود على مسائل مُلحَة، منها ملفات إنسانية بحْتَة. لقد آن الأوان لإجراء مناقشاتٍ جادة بشأن إصلاحٍ شامل وحقيقي لمجلس الأمن، وتحديداً فيما يتعلق بتحديات حق النقض، وأهمية توسيع العضويات الدائمة والمنتخبة، وتحسين نهج المجلس وأساليب عمله، وتمكينه من التعامل مع الأزمات واستباقها.
إن دولة الإمارات تؤكد على أهمية الحفاظ على نظامٍ دوليٍ قائم على احترام سيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها، تدور فيه العلاقات الدولية بما يتماشى مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
أما اللجوء للقوة بدلاً عن الحلول السياسية، وتقسيم العالم بمنطق “مع وضد”، فلن يَنجُم عنه إلا المزيد من الفوضى، وبعثَرَة الجهود الدبلوماسية، ولن يخرجَ مِنه أي طرفٍ منتصراً. وهنا لابُد من التشديد على ضرورة احترام الاختلاف والتنوع السياسي والتنموي والبَحث عن القيم المشتركة بما يضمن التعاون والتكامل بين مختلف الشعوب والدول.
ولابد من تعزيز فاعلية المنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، لدورها الحيوي في بناء الجسور وتهدئة التوترات وإيجاد حلولٍ سلمية، حيث إننا نعول عليها كخط الدفاع الأول لمنع انجرار الدول نحو تيارات انقسامية حين تشتعل صراعات سياسية كبرى. ونرى أيضاً أن للمنظمات الإقليمية، كجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، دورٌ محوري في دعم هذه المساعي والمسارات السياسية المتعثرة، نظراً لإلمامها بالسياقات المحلية.
السيد الرئيس،
تؤمن بلادي أن المسار السلمي هو السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمات، خاصة في منطقتنا التي مزقتها قوة السلاح والخطاب المتطرف، فنحن لا نألو جهداً لخفض التصعيد والدعوة إلى تغليب الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات، مع توجهنا في الوقت ذاته نحو تعزيز الترابط الاقتصادي بين دول المنطقة كأداة لخلق واقع جديد من التكامل، وبما يعود بالنفع على اقتصادات المنطقة ومواطنيها ويعزز الاستقرار والازدهار الإقليميين.
وتجدد دولة الإمارات من هذا المنبر مطالبتها لإيران بإنهاء احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، فمهما طالت هذه القضية، سيظل حقنا المشروع في هذه الجزر قائماً ولن يُبطل الوقت سيادتنا عليها، أو يوقفنا عن المطالبة بحلها إما من خلال التفاوض المباشر أو محكمة العدل الدولية، وهذا موقف دولة الإمارات الثابت منذ عقود.
ونشدد على موقف مجلس التعاون لدول الخليج العربية بدعوة العراق إلى اتخاذ خطوات جادّة وعاجلة لمعالجة الآثار السلبية المترتبة على حكم محكمته الاتحادية العليا بشأن الاتفاقية المبرمة بين الكويت والعراق حول تنظيم الملاحة البحرية في خور عبدالله، ونؤكد على ضرورة أن يتم ذلك على نحو يخدم علاقات حسن الجوار وبما يتماشى مع القانون الدولي والاتفاقيات الموقعة بين البلدين الشقيقين.
إن هدفنا الأسمى هو الدفع باتجاه مبدأ تصفير المشاكل مهما بلغت من التعقيد، فتستعيد الدول الوطنية سيادتها، ولا يعود للجماعات المتطرفة والمسلحة موضع قدمٍ في منطقتنا، بحيث نمضي قدماً ضمن رؤية مبنية على السلام، والانفتاح، والتعايش، والتعاون، والتنمية.
إن تحقيق هذه الرؤية ليس هدفاً بعيد المنال، فمنطقتنا زاخرةٌ بالطموح وغنيةٌ بالموارد والطاقات الشابة القادرة على توجيه الدفة نحو الأمن والاستقرار والازدهار إذا سُخرت لها الإرادة السياسية وشُدت لها السواعد.
ولهذا، ترفض بلادي التسليم بأن النزاعات هي قدرٌ مكتوب على منطقتنا، فنحن على ثقة بأن الأمن والاستقرار والازدهار سيعود لليمن وسوريا والسودان وليبيا والعراق ولبنان، وأن الدولة الفلسطينية المستقلة ستقام على حدود عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وعاصمتها القدس الشرقية.
ولكن هذه الجهود لن تؤتي بثمارها إذا لم نقتلع جذور التطرف والكراهية والعنصرية من منطقتنا والعالم، فقد أصبح جلياً بأن خطاب الكراهية والتطرف يرتبطان بشكل مباشر بانتشار النزاعات، وتفاقمها، وهذا ما أقره مجلس الأمن حين اعتمد في يونيو الماضي قراره التاريخي رقم ألفانِ وستمائةٍ وستةٌ وثمانون، بشأن التسامح والسلم والأمن الدوليين، ضمن مبادرة رائدة لعبت بها الإمارات دوراً أساسياً.
ورغم أن الدعوة لنشر قيم التسامح والتعايش السلمي لها تأثير نافذ على مسامع الشعوب، إلا أن تطبيق هذه القيم على الأرض له وقعٌ أكبر في ترسيخها بين المجتمعات. وهذا يعني الامتناع عن المعايير المزدوجة، فتدمير كنيسة في العراق، أو حرق مصحفٍ في السويد، أو الهجوم على مركز ثقافي يهودي في الأرجنتين، جميعها أعمال مرفوضة تهدف إلى نشر الفتنة والفوضى، ومن هنا تأتي أهمية سد الثغرات في السياسات ووضع استراتيجيات متكاملة وفعالة تضمن حق الإنسان وترسي الاستقرار في المجتمعات. ويشمل ذلك أيضاً التصدي للممارسات العنصرية لاسيما الإقصاء والتمييز ضد النساء والفتيات في أفغانستان.
السيد الرئيس،
إننا ندعو لتظافر الجهود لمعالجة التطورات الخطيرة التي تضع الاستقرار العالمي على المحك، وعلى رأسها المساعي لتطوير أسلحة نووية وتقويض منظومة عدم الانتشار، إذ لا يجب التهاون بتاتاً مع هذا النوع من التهديدات أو التعايش مع إمكانية وصولنا لصراع نووي ستكون خسائره فادحة على الجميع.
ونؤكد على أهمية التخفيف من معاناة الشعوب في حالات النزاع، خاصة عبر منح استثناءات إنسانية حين تتخذ تدابير كالعقوبات، فالمدنيين، وفي مقدمتهم الأطفال، ليسوا طرفاً في هذه النزاعات ولا علاقة لهم بنشوبها أو استمرارها. وقد قدّمت الدول العربية نهجاً يحتذى به في الدبلوماسية الإنسانية عبر دعمها للشعب السوري الشقيق في أعقاب الزلزال المدمر هذا العام.
وفي سياق نهج دولة الإمارات القائم على دعم الشعوب المنكوبة والتخفيف من معاناتها بمختلف السبل، نعتزم إطلاق منصة رقمية توظف تقنيات حديثة لتمكين الدول المتضررة من إبلاغ المجتمع الدولي باحتياجاتها الانسانية فور وقوع الكوارث الطبيعية، بما يتيح تنسيق الاستجابة الإنسانية على نحو فعال وعاجل.
ولا يفوتنا التأكيد هنا على تقاطع هذه النزاعات مع غيرها من التحديات الجسيمة، وأبرزها أزمات المناخ والغذاء وأمن الطاقة والمياه، والتي ستمتد تبعاتها لأجيال قادمة.
وحين نتحدث عن أزمة التغير المناخي، فإننا نتحدث عن مرحلة مفصلية يمر بها عالمنا اليوم. لقد أكّدَت نتيجة أول حصيلة عالمية لتقييم التقدم في تنفيذ أهداف اتفاق باريس أن العالم بعيد عن المسار الصحيح، وأننا نحتاج إلى تغيير جذري لتفادي ارتفاع درجة حرارة الأرض فوق مستوى درجة ونصف مئوية، وقد يرى البعض هذا مستحيلاً… ولكن بلادي تراه ممكناً.
ومن هذا المنطلق، ستركز “الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي”، والتي تستعد دولة الإمارات لاستضافتها بعد نحو شهرين، على تكثيف التعاون الدولي لتحقيق أعلى الطموحات الممكنة، حيث تركز خطة عمل المؤتمر على أربعة محاور أساسية هي: تسريع تحقيق انتقال منظم وعادل في قطاع الطاقة، وتطوير آليات التمويل المناخي، والتركيز على سُبل العيش وحماية السكان، ضمن إطار يقوم على الشفافية واحتواء الجميع.
علينا أن نعيد الأمل والتفاؤل بقدرتنا على مواجهة التغير المناخي… وترى دولة الإمارات أن تحقيق هذا التحول في قطاع الطاقة هو أعظم فرصة لتعزيز واستدامة التنمية البشرية والاقتصادية.
ومن المهم التركيز على مسألة التمويل كأداة أساسية في هذا المجال، الأمر الذي يستوجب تطوير الهيكل المالي الدولي، وتحفيز القطاع الخاص لتمويل العمل المناخي، وضمان وفاء الجهات المانحة بتعهداتها، وأن نُفعّل صندوق الخسائر والأضرار.
وتماشياً مع قيمنا ونهجنا في دولة الإمارات، سنحرص أيضاً على الاستفادة من المساهمات القيّمة للمرأة والشباب والمجتمع المدني والقطاع الخاص، وضمان قيام الجهات الحكومية حول العالم بمسؤولياتها لمواجهة التغير المناخي.
علينا أن نتحد ونعمل وننجز لتحقيق التقدم المنشود، وأنتهز هذه الفرصة لأوجه للعالم دعوةً مفتوحة للمشاركة بفعالية في المؤتمر وتقديم حلول جماعية، وتحقيق نقلة نوعية في مواجهة التغير المناخي يتحول معها تركيز عملنا من المفاوضات، إلى ضمان نتائج ملموسة لبناءِ مستقبلٍ أفضل وأكثر استدامة، من خلال توافق الآراء واحتواء الجميع.
كما أن مواجهة التغير المناخي ضرورية للحد من أزمة انعدام الأمن الغذائي، التي تقتضي تعزيز الاستثمار في نظم الإمدادات الغذائية وحمايتها من التلف أو الهجمات، مع التركيز على تطوير أنظمة ذكية لزيادة الإنتاجية وللتقليل من آثار الكوارث الطبيعية والأزمات السياسية والأمنية على الأمن الغذائي.
ورغم تعاظم مشكلة ندرة المياه حول العالم، إلا أنها لا تحظى بالاهتمام الذي يوازي حجم وخطورة التهديدات التي تفرضها على الحياة في كوكبنا، الأمر الذي يحتم علينا إيجاد نماذج جديدة من التعاون الدولي في مجال المياه وجعل هذه المسألة في صدارة أولويات العمل متعدد الأطراف. وإدراكاً لذلك، تسعى دولة الإمارات، عبر العمل مع الشركاء الدوليين، إلى التوصل لحلول فعالة لمعالجة هذه المشكلة، وهذا ما تضمنته الورقة التي نشرتها وزارة الخارجية اليوم، ونأمل بأن تساهم في تحديد السياق المطلوب لتحقيق هذه الغاية.
لقد أصبحت التحديات الدولية مترابطة إلى حدٍ كبير وليس بمقدور أي دولة أو منظمة معالجتها لوحدها، فالجماعات الارهابية التي تحاول بسط سيطرتها في منطقتنا، تجند مقاتليها وتمول شبكاتها من مناطق أخرى، وتداعيات جائحة كوفيد طالت مختلف دول العالم، كما أن معاناة المدنيين من النزاعات لا تختلف باختلاف أسبابها.
إن دولة الإمارات تؤمن بأن العمل الجماعي لم يعد خياراً وإنما ضرورة قصوى، وأن قرارات اليوم ستمتد تبعاتها لعقود قادمة، وهنا يبقى السؤال: ما هو الإرث الذي نريد تركه لأجيال المستقبل؟ هل نترك لهم نزاعات وأزمات معقدة وشحٌ في الموارد والفرص، أم نظام دولي مستقر ومزدهر، ومجتمعات يسودها التسامح والتعايش، قادرة على الصمود في وجه التحديات؟
بالنسبة لنا في دولة الإمارات، فإن خيارنا السلام، وسبيلنا التنمية، ووجهتنا المستقبل. ومع عودة رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي من أول مهمة عربية طويلة الأمد في الفضاء، محمّلاً بتجربة لا تُقدر بثمن، نرى في شبابنا امكانيات قيادية جديدة تبشر بمستقبل واعد يبني على الانجازات التي حققناها، فنحن عازمون على مواصلة السير على خطى مؤسسي الدولة، لتحقيق المزيد من التطور والاستثمار في الإنسان والعلوم لشعوب العالم، فسياساتنا وقراراتنا وعلاقاتنا تجسد حرصنا على تحقيق هذه الغايات.
وشكراً، السيد الرئيس.